محمد أحمد المحجوب
( 1908م-1976م)
ولد بمدينة الدويم بولاية النيل الأبيض وتخرج في كلية الهندسة بكلية غردون التذكارية عام 1929م التحق بمصلحة الاشغال مهندساً عقب تخرجه مباشرة وعمل بمدينة الخرطوم وهو وان اوضح ملف خدمته مهارته ودقته في العمل وثناء رؤسائه عليه كمهندس الا انه لم يشعر انه كان يحقق ذاته في هذا المجال.
فقد دفعه هاجس الدراسات الانسانية الى تغيير مسار حياته العملية عندما التحق بكلية القانون عند انشائها (1936م) وتخرج منها وزملاؤه الاقلاء كأول دفعة (1938) والتحق بالقضاء وظل به الى عام (1946) وتركه للمحاماة غايته ان يعمل في حرية اوسع بالسياسة التي هي الركيزة الثانية في حياته
كانت تجربته كقاض في شندي 1943م ثم عطبرة والابيض تنم عن عسير المزاوجة بين القضاء ورفع لواء «المؤتمر» فانحاز للمؤتمر.
نصع المحجوب كسياسي في فترة الاستقلال (زعيم معارضة وزير خارجية ثم رئيسا للوزراء عن حزب الامة) غير انه يبدو ان الحقبة الممتدة من (1927 الى 1937) كانت من أهم فترات حياته اذ تبلورت فيها شخصيته الادبية والفكرية وتحددت فيها معالم آرائه السياسية وشهدت هذه الفترة كتاباته الثرة في شتي ضروب الادب .
بدأ الكتابة في حضارة السودان (1927) وتوالى هذا في مجلة النهضة عام (1931م) ثم صارت كتاباته اكثر نضوجاً وتنوعا في مجلة الفجر (32 1937) والنظرة العجلى لهذه المقالات توضح ان جلها كان يحتقب الادب، علم الجمال، الاجتماع فالسياسة، ومعظم هذه المقالات ظهرت في شكل كتب في فترة لاحقة.
لايبدو ان منصب وزير الخارجية الذي تقلده لاول مرة (1956) كان غريبا على المحجوب ولا هو بغريب علي الباحث في سيرته فقد كان في وفد الجبهة الاستقلاقية الذي اتجه للامم المتحدة ( 1946) يدعو لاستقلال السودان ثم بعد ذلك إلي لندن ليكون رابطة عصبة الشعوب الملونة ( 46 1947) مع كوامي نكروما وجومو كنياتا ولفيف من الملونين من جنوب افريقيا وجزر الهند الغربية.
حياة المحجوب السياسية مثيرة للجدل .تولى منصب وزارة الخارجية عام 1957م وفي حكومة أكتوبر تولى منصب وزارة الخارجية في عام 1964 م،وفي فترة الديمقراطية الثانية تولى منصب رئيس الوزراء عام 1967م ،وتولى المنصب مرة أخرى عام 1968م إلى جانب مهام وزير الخارجية .
من مؤلفاته مقالات في صحيفة النهضة وفي مجلة الفجر وكتاب الحكومة المحلية كما اشترك مع عبد الحليم محمد في كتاب موت دنيا ، له كتاب الديمقراطية في الميزان باللغة الإنجليزية Democracy on Trial وله أشعار كثيرة وديوان الفردوس المفقود قلب وتجارب وديوان مسبحتي ودني ومقالات نحو الغد
نشأ محمد أحمد محجوب كغيره من أبناء ذلك الزمان في مطلع القرن العشرين والبلاد قد ودعت الحكم الوطني بعد غروب شمس الدولة المهدية وخضوع السودان لسيطرة الحكم الثنائي "الانجليزي المصري". وتغيب عن مصادر الدراسات السودانية تفاصيل حياته الأولى وحتى النشرة التعريفية التي قام بإعدادها الدكتور محمد الواثق الذي ترأس قسم اللغة العربية بجامعة الخرطوم خلت صفحاتها من ذكر مراحل تعليم محمد أحمد المحجوب الدنيا.
والثابت كما ذكرنا أنه ولد في مدينة الدويم عام 1908م وتخرج في قسم الهندسة بكلية غردون عام 1929م والتحق بمدرسة الحقوق حيث تخرج فيها سنة 1938م.
ومن الواضح أن سيرة حياته منذ ميلاده بالدويم وحتى دخوله كلية غردون بالخرطوم لم تشهد احداثاً غير عادية فلم نجد في سيرة حياته ما يشير الى هذه الفترة من عمره ولم يبدأ الاهتمام بشخصية محمد احمد محجوب إلا بعد دخوله كلية غردون التي كانت تمثل غاية الطموح لكل شاب في ذلك العصر.
وبعد ان تخرج المحجوب في قسم الهندسة بكلية غردون عمل مهندساً بمصلحة الاشغال العامة مدة قصيرة غير أنه ما لبث ان عاد للكلية مرة اخرى لدراسة القانون وقد جمع بين الهندسة والقانون اي بين لغة القياس الدقيق ولغة القانون التي تخلص الى الحقائق والنتائج بناءً على المعطيات الموجودة الامر الذي اثر على شخصيته كثيراً مما جعل افقه واسعاً وثقافته خصبة تتسم بالمرونة والانفتاح وقد كان لهذا الاتجاه اثر كبير في توجيه فكره وسلوكه حيث اتصف بالدقة والانضباط.
أما حياته العلمية فقد تقلبت بين العمل في سلك القضاء والتفرغ للعمل السياسي من أجل استقلال البلاد. فبعد أن تخرج في مدرسة الحقوق عام 1938م عمل في القضاء في نفس العام وحدث أن عرضت عليه رئاسة تحرير جريدة (الأمة) عندما انشئ حزب الامة ولكنه اشترط لقبول المنصب ان يمنح ترخيصاً بمزاولة المحاماة فلما لم يُجب الى طلبه رفض المنصب ورشح زميله الاستاذ يوسف التني
ولعل هذا الموقف يؤكد رغبة محمد احمد محجوب في ممارسة مهنة المحاماة ويبدو أن عمله في مجال القضاء لم يتح له اشباع رغبته وطموحه في العمل الحر.
فالمحجوب الذي لم يرض بالعمل مهندساً في مصلحة الاشغال عاد ليسأم من مهنة القضاء ويقدم استقالته ليتفرغ للعمل السياسي العام والبلاد في ذلك الوقت تموج بحركة سياسية صاخبة اذ بدأت ملامح الوعي تتكون وكان على الخريجين ان يقودوا رسن النضال فلم يتردد المحجوب في التخلي عن وظيفة محدودة التأثير ويدخل في رحاب العمل العام من أجل الوطن.
ولم يكن في حاجة لمن يزكيه فقد كانت الأحزاب في ذلك الوقت في أشد الحاجة لمثقفين ممتلئين بالحس الوطني والشعور القومي. وذلك من أجل الوقوف في وجه الاستعمار والتصدي للأحداث الجسيمة وليعلموا على اذكاء جذوة النضال في وجدان الجماهير.
فاتخذ المحجوب حزب الأمة ليعمل من خلاله لتحقيق أهداف البلاد فلم يلبث ان اختير سكرتيراً للجبهة الاستقلالية ثم سافر الى انجلترا في صحبة السيد المهدي ليعمل على معارضة بروتوكول صدقي بيغن
وفي خضم هذا العمل السياسي كانت روح الأديب متقدة في داخله فبجانب الكتابة الادبية في الثقافة والنقد والادب من خلال الصحف والدوريات كانت قصائد المحجوب تسير في خط مواز لنضوجه السياسي وبدأت الأوساط الأدبية تتعرف على شاعرية مجيدة ونثر رفيع وكان من أولئك الخطباء الذين يهزون المنابر ويثيرون حماسة الجماهير
لكن محمد أحمد محجوب رغم هذا النشاط الدافق في مختلف المجالات الادبية والسياسية والاجتماعية كانت نفسه تتوق لممارسة مهنة المحاماة ليصقل من خلالها موهبته ويستغل مهارته وبعد سفره الى انجلترا في مهمة سياسية عاد الى السودان في اوائل عام 1947م ليمارس مهنة المحاماة بعد ان منح ترخيصاً بمزاولتها ثم يسافر عضواً في وفد الجبهة الاستقلالية تحت رئاسة السيد الصديق المهدي لعرض القضية المصرية على مجلس الأمن
وأغلب الظن أن هذا التسفار الى بلاد الانجليز جعل المحجوب يعايش الحياة في انجلترا على الطبيعة ومن خلال الواقع بعد أن شكلت له الدراسة في كلية غردون وهي كلية انشئت لصقل صفوة من السودانيين على الطراز الانجليزي ملامح نظرية لطبيعة حياة الانجليز وثقافتهم ونظرتهم الى الحياة.
وقد تأثر بذلك في شتى مناحي تفكيره وفي اسلوبه الادبي لذلك لم يكن غريباً ان يعد من رواد الشعر الحديث ليس على مستوى السودان فحسب بل على مستوى العالم العربي.
وللمحجوب مواقف كثيرة في المسرح السياسي لعل أشهرها قبل أن ينال السودان استقلاله استقالته من الجمعية التشريعية مرتين وقد كان من ضمن الأعضاء الذين عينهم الحاكم العام وجاءت استقالته الاولى احتجاجاً على استخدام الحكومة طرقاً غير مشروعة لاجازة قرار يقضي بزيادة رواتب الموظفين البريطانيين بعد أن نجح هو وزملاؤه من أفراد المعارضة في اسقاط هذا المشروع.
أما استقالته الثانية فقد جاءت بسبب الغاء مصر لمعاهد الحكم الثنائي وكانت استقالة من لجنة الدستور فقد كان يرى وعود بريطانيا لا يمكن الوثوق بها وهذان الحدثان يؤكدان مدى اعتداد المحجوب برأيه واقتناعه بوجهة نظره ودفاعه عن مواقفه متى ما رأى انه على حق وهذا ناتج عن ايمانه المطلق بمصلحة البلاد العليا.
واستمر المحجوب في نضاله مع رفقائه من اجل استقلال البلاد حتى تحقق ذلك الحلم فاختير وزيراً للخارجية لأول مرة في يوليو 1956م ومرة اخرى بعد ثورة اكتوبر 1914م التي أطاحت بالحكم العسكري الاول
ومن المحطات المهمة في حياته السياسية أنه رشَّح نفسه لرئاسة الأمم المتحدة منافساً للدكتور شارلي مالك عام 1958م وكانت الدول العربية تسانده ولم يكن الفارق كبيراً بينه وبين شارل مالك الذي ساندته أمريكا كما كان له دور كبير في انجاح القمة العربية بالخرطوم عام1967م وهي القمة التي اشتهرت بقمة اللاءات الثلاثة.
لا شك في أن المتابع لحياة المحجوب يجد أن هذا الرجل ظلمته السياسة كثيراً على الرغم من تقلده فيها ارفع المناصب التنفيذية حيث تعرض للكثير من المتاعب والصعاب وذلك لتقلب احوال السياسة وعدم استقرارها على حال كما ان الصيت والشهرة اللذين وجدهما في دروب السياسة غيبا محمد احمد محجوب الاديب البارع عن اذهان الكثيرين.
لكن لان الادب باق على مر الاجيال والدهور فقد انصف التاريخ المحجوب الاديب وبقيت أشعاره التي جمعها في ديوانين (مسبحتي ودني) وقبله (قصة قلب) الذي أصبح (تجارب قلب) شاهداً على مكانة شاعر يعد من رواد الشعر السوداني المعاصرين ومن المجددين فيه.
وقد أصبحت مقالاته الأدبية التي كان ينشرها في مجلتي النهضة والفجر ثم جمعها في كتاب واحد عام 1939م بعنوان نحو الغد اضاءة للحركة الأدبية في ذلك الوقت وخير دليل وشاهد على اسهاماته في المشهد الثقافي ورؤيته المتطلعة للغد الزاهر للفنون والآداب ببلادنا كما جاء في كتاب موت دنيا الذي اشترك في تأليفه مع رفيقه الدكتور عبدالحليم محمد ليقدم صوراً واضحة من حياة اثنين من ابناء هذا الجيل عاشا في دار واحدة ونهلا الثقافة من مورد واحد وخفق قلبهما بالحب ونبضا بأدق الأحاسيس وفكرا في امر بلادهما تفكيراً خالصاً غير مغرض. وامتد نشاط المحجوب الى النثر فكتب بحثا اخرجه في كتاب تحت عنوان الحركة الفكرية في السودان الى اين يجب ان تتجه وله كتاب تحت عنوان الديمقراطية في الميزان ومؤلف عن الحكم المحلي.
وقد تقيد محمد أحمد محجوب في كل كتاباته بروح الباحث المجتهد الذي يبحث عن فائدة شعبه ويعمل على رفعة وطنه وكان يصوغ عباراته بدقة وتصوير ساعده على ذلك تكوينه الثقافي المتميز فخلد اسمه في عالم الثقافة والأدب والدليل على ذلك الرسائل الجامعية التي اعدت عنه داخل وخارج البلاد.
رحمه الله رحمة واسعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق